فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

سورة العلق:
{اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خلق خلق الإنسان مِنْ علق}
أي الدم، واحدتها علقة، وإنما جمع ولفظ {الإنسان} واحد، لأنه في معنى الجمع، وهذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله: {مَا لَمْ يعلم}، وعلى هذا أكثر العلماء.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون وعبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت: «أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب الله إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء.
قال: فجاءه الملك وقال: اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت له: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقاري، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربّك الذي خلق}، حتى بلغ {ما لم يعلم}.
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة مالي؟ وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت على؟ قالت له: كلاّ ابشر، فوالله لا يحزنك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة، وكان امرًا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟، فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئتَ به إلاّ عُوديَ وأُوذيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزّرًا، ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل- عليه السلام- فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًا، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك»
.
قال الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثيت منه رعبًا، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني»، وأنزل الله سبحانه: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] إلى قوله سبحانه: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5]. قبل: أن تفرض للصلاة، وهي الأوثان، ثم كان ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بعد اقرأ والمدثر، {ن والقلم} [القلم: 1] إلى قوله: {وَإِنَّكَ لعلى خلق عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ثم {والضحى} [الضحى: 1].
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن ابن جرير قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا عبد الواحد قال: حدّثنا سليمان الشيباني قال: حدّثنا عبد الله بن شداد قال: «نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ باسم رَبِّكَ}، ثم أبطأ عليه جبرائيل، فقالت له خديجة: ما أرى إلاّ قد قلاك، فأنزل الله سبحانه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1- 3]».
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشير قال: حدّثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أول سورة نزلت {اقرأ باسم رَبِّكَ}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا أبو عامر العقدي، عن قرّه بن خالد، عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يُقرئنا القرآن في هذا المسجد فنقعد له حلقًا حلقًا، كأني أنظرُ إليه الآن في ثوبين أبيضين، فعنه أخذتُ هذه السورة: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خلق}.
وقال: كانت أول سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب.
أخبرنا محمد بن حمدويه وعبد اللّه بن حامد قالا: حدّثنا محمد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمرًا».
فقالت: معاذ اللّه، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك، فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث.
فلمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه وليس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الدار ثم ذكرت خديجة له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده وقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: من أخبرك؟ فقال: خديجة. فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربًا في الأرض.
فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فأثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 1- 2] حتّى بلغ {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] قل: لا إله إلاّ اللّه، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم، وأنّك على مثل ناموس موسى، وأنّك نبي مرسل، وأنّك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك، فلمّا توفي ورقة قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس في الجنة، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني»، يعني ورقة، قالوا: وقال ورقة:
فإن يك حقًا يا خديجة فاعلمي ** حديثك إيّانا فأحمد مرسلُ

وجبريل يأتيه وميكال معْهما ** من اللّه وحيٌ يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز عزٌ لدينه ** ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلل

فريقان منهم فرقة في جنانه ** وأُخرى بأغلال الجحيم تغلغل

{اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} قال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العبادة ولا يعجل عليهم بالعقوبة {الذى عَلَّمَ بالقلم} يعني الخط والكتاب.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا محمد بن أيوب بن هشام المزني قال: حدّثنا أبو الحسن عاصم بن علي بن عاصم وعبد اللّه بن عاصم الجماني قالا: حدّثنا محمد بن راشد عن مسلم بن موسى قال: أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن عبد اللّه بن عمر بن العاص قال: «قلت: يا نبي اللّه أكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: نعم، فاكتب فإنّ اللّه علّم بالقلم».
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} من البيان والعمل، قال قتادة: العلم نعمة من اللّه، لولا العلم لم يقم دين ولم يصلح عيش {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} من أنواع الهدى والبيان.
وقيل: علّم آدم الأسماء كلّها، وقيل: الإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم بيانه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113].
{كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} ليتجاوز حدّه ويستكبر على ربّه {أَن رَّآهُ استغنى} قال الكلبي: يرتفع من منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بك من فقر يُنسي ومن غنى يُطغي».
{إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} المرجع في الآخرة {أَرَأَيْتَ الذي ينهى} {عَبْدًا إِذَا صلى} نزلت في أبي جهل- لعنه اللّه- نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حتى فرضت عليه.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد فقال: أخبرنا أحمد بن عبد اللّه قال: حدّثنا محمد بن عبد اللّه ابن يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال: حدّثنا معمر بن سليمان عن أبيه قال: حدّثنا نعيم بن أبي مهند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
قالوا: نعم، قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته.
قال فما فجأهم منه إلاّ يتقي بيديه وينكص على عقبيه، قال: فقالوا له: ما ذاك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه خندقًا من نار وهؤلًا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا» فأنزل اللّه سبحانه: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ} أبو جهل لعنه اللّه {وتولى أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى كَلاَّ لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية} لنأخذن بمقدم رأسه فَلَنُذِلَّنّهُ، ثم قال علي البدل: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة}.
قال ابن عباس: لمّا نهى أبو جهل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة انتهرهُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال أبو جهل: أتُهدّدني؟ فواللّه لأملأن عليك إن شِئت هذا خيلا جردًا أو رجالا مردًا، فأنزل اللّه سبحانه: {فَلْيَدْعُ ناديه} أي قومه {سَنَدْعُ الزبانية} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأخذته الزبانية عيانًا».
{كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} وصلّ واقترب من اللّه سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة العلق:
مكية.
وآياتها 19.
وهي أول ما نزل من القرآن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة العلق: الآيات 1- 5]

{اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق (1) خلق الإنسان مِنْ علق (2) اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم (3) الَّذِي عَلَّمَ بالقلم (4) عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يعلم (5)}
عن ابن عباس ومجاهد: هي أول سورة نزلت.
وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم.
محل {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال، أى: اقرأ مفتتحا باسم ربك قل بسم اللّه، ثم اقرأ.
فإن قلت: كيف قال: {خلق} فلم يذكر له مفعولا، ثم قال: {خلق الإنسان}؟
قلت: هو على وجهين: إما أن لا يقدر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه. وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله: {خلق الإنسان} تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق، لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض. ويجوز أن يراد: الذي خلق الإنسان، كما قال: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ القرآن خلق الإنسان} فقيل: الَّذِي خلق مبهما، ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان} تفخيما لخلق الإنسان. ودلالة على عجيب فطرته.
فإن قلت: لم قال: {مِنْ علق} على الجمع، وإنما خلق من علقة، كقوله: {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ علقة}؟
قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ}. {الأكرم} الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، حيث قال: {الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يعلم} فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة اللّه ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم:
ورواقم رقش كمثل أراقم ** قطف الخطا نيّالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجدّ مسيرها ** إلّا إذا لعبت بها بيض المدى

وقرأ ابن الزبير: {علم الخط بالقلم}.

.[سورة العلق: الآيات 6- 19]

{كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى (6) أَنْ رَآهُ استغنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرجعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى (9) عَبْدًا إِذا صلى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الهدى (11) أَوْ أَمَرَ بالتقوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى (13) أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى (14) كَلاَّ لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطئة (16) فَلْيَدْعُ ناديه (17) سَنَدْعُ الزبانية (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب (19)}
{كَلَّا} ردع لمن كفر بنعمة اللّه عليه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه أَنْ رَآهُ أن رأى نفسه. يقال في أفعال القلوب: رأيتنى وعلمتني، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. {واستغنى} هو المفعول الثاني {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرجعى} واقع على طريقة الالتفات إلى {الإنسان}، تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان. و{الرجعى}: مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع.
وقيل: نزلت في أبى جهل، وكذلك {أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى} وروى أنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الدعاة إبقاء عليهم.
وروى عنه لعنه اللّه أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم.
قال: فو الذي يحلف به، لئن رأيته توطأت عنقه، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة، فنزلت {أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى} ومعناه: أخبرنى عمن ينهى بعض عباد اللّه عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة اللّه. أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما بأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح، كما نقول نحن {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد.
فإن قلت: ما متعلق {أرأيت}؟
قلت: {الذي ينهى} مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين.
فإن قلت: فأين جواب الشرط؟
قلت: هو محذوف، تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن اللّه يرى. وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت: فكيف صح أن يكون {أَلَمْ يعلم} جوابا للشرط؟
قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول {أرأيت}؟
قلت: هي زائدة مكرّرة للتوكيد.
وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة كَلَّا ردع لأبى جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة اللّه تعالى وأمره بعبادة اللات، ثم قال: {لئن لم ينته} عما هو فيه {لَنَسْفَعًا بالناصية} لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار.
والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدّة.
قال عمرو بن معديكرب:
قوم إذا يقع الصّريخ رأيتهم ** من بين ملجم مهره أو سافع

وقرئ: {لنسفعنّ}، بالنون المشدّدة.
وقرأ ابن مسعود، {لأسفعا}. وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، ولما علم أنها ناصية المذكور: اكتفى بلام العهد عن الإضافة ناصِيَةٍ بدل من الناصية، وجاز بدلها عن المعرفة، وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. وقرئ: {ناصية}، على: هي ناصية. و{ناصية} بالنصب. وكلاهما على الشتم.
ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازى. وهما في الحقيقة لصاحبها. وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطئ. والنادي: المجلس الذي ينتدى فيه القوم. أى يجتمعون. والمراد: أهل النادي. كما قال جرير:
لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم

والمقامة: المجلس. روى أن أبا جهل من برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدنى وأنا أكثر أهل الوادي ناديا، فنزلت.
وقرأ ابن أبى عبلة: {سيدعى الزبانية}، على البغاء للمفعول، و{الزبانية} في كلام العرب: الشرط، الواحد: زبنية، كعفرية، من الزبن: وهو الدفع.
وقيل: زبنى، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم أمسى، وأصله: زبانى، فقيل. زبانية على التعويض، والمراد: ملائكة العذاب.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا» {كَلَّا} ردع لأبى جهل {لا تُطِعْهُ} أى أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}. {وَاسْجُدْ} ودم على سجودك، يريد: الصلاة {واقترب} وتقرّب إلى ربك. وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد».
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، «من قرأ سورة العلق أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله». اهـ.